تلبيسة: مدينة الثورة المبكرة وصوت الريف السوري الحر

مقدمة

تلبيسة، تلك المدينة الصغيرة الواقعة شمال مدينة حمص، لم تكن يومًا بعيدة عن نبض الشارع السوري، بل كانت من أوائل المدن التي التقطت شرارة الثورة السورية في ربيع

2011. ورغم محدودية مواردها، إلا أن أهلها أظهروا وعيًا سياسيًا عاليًا، وشجاعة نادرة في مواجهة آلة القمع، لتصبح تلبيسة أحد رموز الحراك الشعبي السلمي والمقاومة

المدنية في سوريا.

البدايات الأولى: تلبيسة تلتقط النداء

مع انطلاق أولى المظاهرات في درعا، وتوالي أخبار سقوط الشهداء هناك، بدأت حالة من الغليان الشعبي تعم مختلف المناطق السورية. لم تتأخر تلبيسة عن اللحاق بهذا

الحراك، فسرعان ما خرجت أولى المظاهرات في شوارعها، رافعة شعارات الحرية والكرامة، ومطالبة بالإصلاح ووقف القمع.

لم يكن خروج أهالي تلبيسة عفويًا فقط، بل كان استجابة واعية لنداء باقي المدن السورية. فقد أدرك شباب المدينة أن ما يجري في درعا وحمص ودمشق هو قضية وطنية

جامعة، وأن الصمت لم يعد خيارًا أمام آلة القمع والاعتقال. هكذا، تحولت المساجد والساحات إلى مراكز تجمع وتنسيق، وبدأت الأصوات تعلو مطالبة بالتغيير.

الاستجابة السريعة والتنظيم الشعبي

ما ميّز تلبيسة عن غيرها من المدن هو سرعة استجابتها وتماسك نسيجها الاجتماعي. ففي الأيام الأولى للثورة، تشكلت لجان شعبية محلية ضمت شبابًا من مختلف العائلات،

مهمتها تنظيم المظاهرات، توثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم للمتضررين من الاعتقال أو الملاحقة الأمنية.

لم تقتصر المشاركة على فئة عمرية محددة أو طبقة اجتماعية واحدة، بل انخرط الجميع: الرجال والنساء، الشبان والشيوخ، وحتى الأطفال. كان مشهد العائلات وهي تخرج معًا

في مظاهرات الجمعة مشهدًا مألوفًا في شوارع تلبيسة، ما أضفى على الحراك طابعًا جماعيًا متماسكًا.

تلبيسة تتصدر المشهد الثوري في ريف حمص

مع تصاعد وتيرة الحراك في حمص، برزت تلبيسة كواحدة من أهم بؤر الثورة في الريف الشمالي. لم تكتفِ المدينة بتنظيم المظاهرات، بل تحولت إلى مركز إعلامي مهم، حيث

كان الناشطون يبثون مقاطع الفيديو مباشرة إلى وسائل الإعلام العالمية، موثقين الانتهاكات ومطالبين المجتمع الدولي بالتدخل.

كما لعبت تلبيسة دورًا مهمًا في إيواء النازحين من القرى المجاورة التي تعرضت للقصف أو الحملات الأمنية، ما زاد من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق أهلها، ورسّخ لديهم

الإحساس بوحدة المصير مع باقي المدن السورية.

مواقف الشجاعة والتضحية

دفعت تلبيسة ثمن مشاركتها المبكرة غاليًا؛ إذ تعرضت لحملات أمنية عنيفة، شملت الاعتقالات الجماعية، القصف، وحصار الخدمات. لكن رغم ذلك، لم يتراجع أهلها عن

موقفهم، بل أصروا على مواصلة الحراك السلمي، وتقديم الشهداء والمعتقلين في سبيل الحرية.

سُجلت في المدينة مواقف بطولية عديدة، حيث تصدى الأهالي لمحاولات اقتحام المدينة، ونظموا حملات إغاثة داخلية لدعم المتضررين، كما أطلقوا مبادرات سلمية للحوار مع

باقي مكونات المجتمع السوري.

تلبيسة والذاكرة الوطنية

اليوم، وبعد سنوات من انطلاق الثورة، لا تزال تلبيسة تحتفظ بمكانتها في الذاكرة الوطنية السورية كمدينة المبادرة والشجاعة. لقد أثبت أهلها أن المدن الصغيرة قادرة على صنع التغيير، وأن الاستجابة السريعة لنداء الحرية يمكن أن تكون بداية لمسار تاريخي جديد.

خاتمة

تلبيسة لم تكن مجرد مدينة في ريف حمص، بل كانت صوتًا للريف السوري الحر، وواحدة من أولى المدن التي قالت “لا” للظلم والقمع. قصة تلبيسة في الثورة السورية هي

قصة شعب رفض الاستسلام، وقرر أن يكون جزءًا من مستقبل سوريا الحرّة.